دور العوامل البيولوجية والوراثية في اضطراب القلق

العوامل البيولوجية والوراثية واضطراب القلق

 يعتبر اضطراب القلق، أكثر الاضطرابات النفسية انتشارا، حيث يؤثر على جودة الحياة لشريحة كبيرة من الناس، ويسبب مشاكل نفسية واجتماعية، هذا الاضطراب يعرف بمشاعر خوف وقلق مفرطين، يكونان في الغالب غير متناسبين مع المواقف الفعلية، ترجع عوامل اضطراب القلق إلى مجموعة من الأسباب المركبة والمتداخلة فيما بعضها البعض، من أهمها العوامل البيولوجية والوراثية التي تلعب دورا أساسيا في التطور التراجيدي للحالة، في هذا المقال، سنتطرق لمدى ارتباط العوامل البيولوجية والوراثية، باضطراب القلق، مع محاولة معرفة  آلياتها وطرق علاجها.

العوامل الوراثية وتأثيرها على اضطراب القلق

الوراثة ودورها في انتقال اضطراب القلق

بعض الدراسات الطبية الحديثة، تشير إلى أن العوامل الوراثية تلعب دورا مهما في تحديد مدى  احتمالية الشخص للإصابة باضطراب القلق، فأكدت أنه لما يكون هناك تاريخ عائلي للإصابة بهذا الاضطراب، يزداد بشكل أتوماتيكي خطر انتقاله إلى الأجيال اللاحقة،  وكمثال على ذلك، أظهرت الدراسات أنه إذا كان أقارب الدرجة الأولى (الاباء) للأشخاص مصابين باضطراب الهلع، مصابين بهذا الاضطراب، سيكون احتمال كبير للإصابة هؤلاء الاشخاص، بواحد أو أكثر من اضطرابات القلق، أما  دراسات التوائم فقد أظهرت أن التوائم وحيدي البويضة، يعانون من اضطرابات القلق، بمعدل يكون أعلى بخمس مرات مقارنة بالتوائم ثنائيي البويضة، مما يبين دور الجينات بشكل واضح في الاصابة بهذا الاضطراب.

دور دراسات التوأم في فهم الوراثة

تعد بلا شك دراسات التوأم من الوسائل القيمة لفهم الباحثين كيفية تأثير العوامل الوراثية على اضطرابات القلق، وفقا لهذه الابحاث الطبية، فمن الممكن تفسير حوالي 31.6% من التباين الجيني في اضطراب القلق العام (GAD) من خلال الوراثة فقط، بالإضافة الى ذلك، تشير بعض النتائج العلمية إلى وجود عوامل وراثية مشتركة تؤثر على اضطرابات أخرى، مثل اضطراب الهلع والاكتئاب والرهاب الاجتماعي، هذا الارتباط الجيني بين هذه الحالات يبرز بشكل واضح، كيف يمكن للجينات أن تكون عاملا في انتقال وتطور اضطرابات نفسية متعددة.

الجينات المرتبطة باضطراب القلق

تشير الأبحاث العلمية الجينية إلى وجود جينات معينة، قد تعمل على زيادة الاستعداد للإصابة باضطراب القلق، تضم هذه الجينات تلك الجينات المسؤولة عن تنظيم النواقل العصبية، مثل السيروتونين والدوبامين، وهما مواد كيميائية تلعب دورا هاما، في استقرار الحالة المزاجية وتنظيم المشاعر لدى الانسان، وأي خلل ولو بسيط في هذه الجينات، قد يؤدي حتما إلى زيادة الحساسية للتوتر والقلق.

تأثير العوامل البيولوجية في اضطراب القلق

دور النواقل العصبية

تعتبر النواقل العصبية من العناصر الأساسية، التي تعمل على تنظيم عمل الدماغ وبالتالي تؤثر بشكل اتوماتيكي على مشاعر الإنسان، السيروتونين والنورأدرينالين، من النواقل العصبية التي تلعب دورا حاسم،ا في ظهور أعراض القلق، فنقص السيروتونين، على سبيل المثال، يرتبط بشكل مباشر بمشاعر مفرطة من الخوف والقلق، بينما يؤدي اضطراب مستويات النورأدرينالين إلى استجابات غير طبيعية وكبيرة للتوتر والقلق، هذه الاختلالات الكيميائية، تظهر بشكل واضح كيف يمكن للنواقل العصبية أن تكون عاملا بيولوجيا مهما في اضطرابات القلق.

دور الجهاز العصبي المركزي

إن الجهاز العصبي المركزي، يعد المسؤول الاول على تنظيم استجابات الجسم للقلق والتوتر، وقد أظهرت الابحاث أن فرط نشاط اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي المنطقة المسؤولة أساسا عن استجابات الخوف، مما يؤدي بالتالي إلى ردود فعل مفرطة، تجاه المواقف المجهدة، في الجانب المقابل، قلة النشاط في قشرة الفص الجبهي، تؤدي الى اضعاف القدرة على التحكم بالمشاعر السلبية، مما يجعل الانسان في هذه الحالة، أكثر عرضة للإصابة بنوبات القلق.

تأثير الهرمونات

كما تلعب الهرمونات دورا كبيرا في استجابات الجسم للتوتر والقلق، وخاصة هرمون الكورتيزول، المعروف بكونه هرمون الإجهاد، ويعد من العوامل البيولوجية المهمة في هذه الاستجابة، فعندما تكون مستويات الكورتيزول مرتفعة لمدة طويلة، نتيجة التوتر المزمن، فإنها لا شك تسبب تغييرات هيكلية و عميقة في الدماغ، من أهمها  تقلص حجم الحُصين (Hippocampus)، وهو جزء مهم في الدماغ المسؤول عن تنظيم المشاعر، هذه التغييرات  الهيكلية تزيد بشكل كبير، قابلية الشخص للإصابة باضطرابات القلق.

التفاعل بين العوامل البيولوجية والوراثية

العوامل الوراثية والبيولوجية كمزيج معقد

إن العوامل الوراثية لا تعمل بشكل منفصل عن العوامل البيولوجية ، بل يتفاعلان مع بعضهم البعض، حيث هذا التفاعل يحدد مدى احتمالية الشخص لتعرض للإصابة باضطراب القلق، كمثال على ذلك، الافراد لذين يحملون جينات معينة من أصولهم سواء الاباء أو الاجداد، قد يكونون أكثر قابلية لتأثير التوتر الناتج عن البيئة أو لصدمات النفسية، كما أن  التأثيرات الجينية،  يمكن أن تغير كيفية استجابة الدماغ للعوامل البيولوجية، مثل كمية النشاط العصبي ومستويات النواقل العصبية.

تأثير البيئة على العوامل الوراثية

 البيئة تلعب دورًا كبير في تفعيل أو تنشيط الجينات المرتبطة بالقلق، فالظروف مثل سوء معاملة الشخص في فترة الطفولة أو تعرضه لصدمات نفسية خطيرة، قد يسبب تغييرات جينية، تزيد من خطر الإصابة باضطرابات القلق، هذا التفاعل بين البيئة والجينات، يعرف  بمفهوم "التأثير المتبادل"، حيث لا يمكن فهم أحد هذه العوامل  دون النظر إلى الآخرى.

تأثير العوامل البيولوجية والوراثية على العلاج

العلاجات الدوائية

 العلاجات الدوائية تعد لا شك  أحد الادوات الاساسية للأطباء، لعلاج اضطراب القلق،  تعمل على فهم الآليات البيولوجية للنواقل العصبية، وتعتبر مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، واحدة من الأدوية الأكثر انتشارا لعلاج اضطراب القلق، فهي تعمل على زيادة مستويات السيروتونين في الدماغ لتحسين المزاج، وتقليل التدريجي لمشاعر القلق، كما  تستعمل البنزوديازيبينات لتنظيم نشاط الجهاز العصبي المركزي،  وتقليل الأعراض الحادة للقلق.

العلاجات الجينية المستقبلية

مع تقدم الدراسات الطبية في هذا المجال، خاصة اضطراب القلق، يزداد بشكل كبير الاهتمام بتطوير علاجات جينية مخصصة تستهدف تعديل التعبير الجيني للأفراد المصابين بهذا الاضطراب، هذه التقنيات الحديثة قد تفتح المجال لأفاق كبيرة، لعلاج اضطرابات القلق بطريقة أكثر فعالية وبشكل دقيق.

الخلاصة

 العوامل البيولوجية والوراثية تعد من الاسباب الأساسية، التي تساهم في ظهور وتطور اضطراب القلق لدى معظم الاشخاص، ولدى ففهمنا لهذه العوامل، يظهر لنا بشكل واضح، كيف يمكن للجينات والنواقل العصبية والجهاز العصبي المركزي أن يؤثروا بشكل مباشر على مشاعر الإنسان واستجاباته للتوتر، كما أن التفاعل بين البيئة والعوامل الوراثية، يظهر مدى تعقيد هذا الاضطراب، ويوضح أهمية النظر إليه من منظور شامل.

 عن طريق تعميق فهمنا لهذه العوامل المرتبطة باضطراب القلق، من الممكن تحسين خطة تشخيص و علاج الافراد المصابين باضطراب القلق، حيث تشمل هذه الجهود تطوير أدوية جديدة، تعمل على استهداف النواقل العصبية بشكل أكثر دقة، بالإضافة إلى استراتيجيات جينية مبتكرة تهدف إلى تقليل تأثير العوامل الوراثية، لكن يظل التحدي الأكبر هو تحقيق توازن بين فهم التأثيرات البيولوجية والوراثية، والقدرة على التعامل مع التأثيرات البيئية والاجتماعية، قصد تحسين حياة الأفراد المصابين باضطراب القلق بشكل شامل ومستدام.

تعليقات